ما الذي يعرفه المغاربة عن دستورهم؟

ما الذي يعرفه المغاربة عن دستورهم؟

إذا كانت مصداقية المؤسسات رهينة بوجود دستور ديمقراطي، فإن التطبيق الفعلي والناجع للدستور، رهين، هو الآخر، بمقدار وعي الشعب به، وتفاعله مع مضامينه ومقتضياته الكلية. ولا يمكن حكم أمة بدستور تجهله الأمة!

منذ استقلال المغرب سنة 1956، عرفت بلادنا خمسة دساتير: 1962، 1970، 1972، 1992، 1996. هذا الأخير هو الذي ما زال العمل به ساريا، منذ الاستفتاء الشعبي الذي أجراه الملك الراحل الحسن الثاني، يوم الجمعة 13 شتنبر 1996.
وخلافا للدساتير السابقة، وضع دستور 1996، الذي جاء بتعديلات مهمة (تكوين البرلمان من مجلسين، وإحداث المجلس الأعلى للحسابات) حدا للأربعين سنة من التنافر السياسي، أو الصدام العنيف، بين مؤسسة الملكية والتيارات اليسارية الثورية، وأسفر عن انطلاق ما سمي «التوافق السياسي» المؤدي بدوره إلى تشكيل «حكومة التناوب» بقيادة الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، في مارس 1998.
وإذا كانت «الروح» التي هيمنت على الدساتير الخمسة لم تتغير، وهي التمركز المفرط للسلط في يد الملك، فإن الفرق بين الدستور الأول (الممنوح) والدستور الخامس (المستفتى بشأنه)، هو نفسه الفرق بين «الصيغة الأتوقراطية» و«المفهوم الليبرالي»، وفي المسافة بينهما، اتخذت التعديلات صفة «إصلاحات بريكولاجية».

الدستور: الظاهر والخفي

يتجاوز النقاش العمومي المطروح حول مطالب إدخال تعديلات على دستور 1996، من أجل صياغة دستور سادس يكرس بالفعل مصداقية ومشروعية مؤسسات «العهد الجديد»، فرض هذا السؤال: ما هي المكانة التي يمنحها المغاربة لدستورهم؟
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، الذي ظل مغيبا سواء لدى الدولة أو في إطار انشغالات الأحزاب السياسية، يبدو مهما، في هذا السياق، كشف مجموعة من العوامل التي تؤثث النسق المؤسسي وتلقي بظلها على علاقة المغاربة بدستورهم.
أولا: ثمة دستوران في المغرب، الأول مرئي (مكتوب) استفتى الشعب بشأنه سنة 1996، والآخر ضمني غير مرئي يفعل فعله في الحياة السياسية بشكل أكبر و«غير صحيح».
ثانيا: مسطرة وضع الدساتير الخمسة، بدءا بـ «الدستور الأب» (1962)، وكذلك مراجعتها وتعديلها، كانت أبعد ما تكون عن المفهوم الديمقراطي، لأنها، ببساطة، مجرد آليات لتقنين نظام حكم مركزي متدثر بـ «واجهة ليبرالية».
ثالثا: إذا كان الدستور هو «أسمى قانون» عند الدول الديمقراطية، فإنه يصعب إلصاق هذه الصفة بالدستور المغربي، على الأقل من ناحية تطبيق بنوده وتفعيلها في تأطير الحياة السياسية. فما هو ملاحظ هو أن الدساتير المغربية المتعاقبة، ظلت أقرب إلى «التطبيق التقريبي» منها إلى «التطبيق الحرفي».
رابعا: احتكار مؤسسة واحدة (المؤسسة الملكية) لإعطاء «التفسير الأسمى» للدستور، وبالتالي انفرادها بصياغة «التأويلات المناسبة» لمضامينه، وهو ما يدفع هذه المؤسسة إلى أن تجعل نفسها -حسب الظروف والحاجة- إما «داخل» الدستور، أو «قبله وخارجه».
خامسا: يؤدي التوظيف الممنهج للمقولات والمرجعيات غير المتضمنة في نص الدستور المكتوب، إلى تحميل هذا الأخير ما لا يتحمل، أو منحه أبعادا يعجز عن الوفاء بها.

علاقة المغاربة بالدستور

نتيجة لمجموع هذه العوامل، وبالعودة إلى السؤال: ما هي المكانة التي يمنحها المغاربة لدستورهم؟ يمكن للمتتبع الراصد أن يسجل جملة من الحقائق، التي تؤكد أن فئات واسعة من الشعب المغربي لا تعرف ما هو «أب القوانين»، إلا حين يجرى الاستفتاء الشعبي على مراجعة الدستور، وتنخرط وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في بث فقرات منتظمة ومختارة بعناية، من أي طبعة جديدة للدستور المغربي.
أما الجيل الذي خرج إلى الحياة بعد الاستفتاء الشعبي (13 شتنبر 1996) على الدستور الخامس الحالي، فهو لا يعرف عن هذا الأخير سوى أنه «مجموعة من القواعد الأساسية التي تنظم حياة المجتمع، سياسيا، اقتصاديا، واجتماعيا»، كما تلقن ذلك من المقررات الدراسية، المتعلقة بـ «التربية على المواطنة».
«الوطن الآن»، استطلعت الشارع حول مدى تفاعل المواطن مع الدستور، وحجم اطلاعه على مضمونه، فاستنتجت الملاحظات التالية:
1) ثمة فئة من المواطنين يعتقدون أن الدستور «نص قانوني مثل غيره من النصوص القانونية الأخرى»، ومنهم من يخلط بين الدستور والقانون الانتخابي!...
2) فئة أخرى عجزت عن تقديم إجابة لسؤال «ما هو الدستور؟»، وبعض المنتمين إلى هذه الفئة لم يسبق له أن سمع بكلمة «دستور»!...
3) في الطبقة المتعلمة نفسها، نجد من لا يستطيع تقديم تعريف واضح لماهية الدستور، فضلا عن الحديث عن أبوابه وفصوله (13 بابا و108 فصل)!...
4) التلاميذ هم الآخرون أبدوا عجزهم عن فهم أولي لوظيفة الدستور، وهم في غالبيتهم يجهلون تاريخ صدور أول دستور مغربي (1962)، ودخول الدستور الحالي حيز التطبيق (1996)!...
5) جل الذين استطلعنا آراءهم من المواطنين العاديين، حملوا مسؤولية جهلهم بمبادئ الدستور للدولة، التي لا تقوم بواجبها في تعريف الناس بالقانون الأسمى للبلاد، الذي يحدد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
تكشف هذه الحقائق أن معظم المغاربة لا يتوفرون على نسخة من الدستور في بيوتهم، ويحتاجون إلى حملة واسعة النطاق تشرح لهم ما يتضمنه دستورهم من مبادئ تتوقف حياتهم الديمقراطية على الوعي به وتمثله على نحو فعال.

الأمية السياسية

الجهل بأساسيات الدستور المنظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعدم الإدراك الواضح لوظيفته كمصدر لمشروعية الهيئات السياسية والإدارية، وضمان الركائز الديمقراطية للبلاد، لا يقتصر على المواطنين العاديين، وإنما يمتد مفعوله إلى المؤسسات الحزبية نفسها، وإلى المسؤولين السياسيين أنفسهم. وسواء تعلق الأمر بالنشاط في الأحزاب السياسية، أو بخصوص البرلمانيين، أو على مستوى المنتخبين، فإن هشاشة الثقافة الدستورية، وضعف التشبع بالقيم الديمقراطية، وإحاطة الذات بالفكر المؤدلج، هي العناوين الأبرز للواقع الذي يسود داخل الطبقة السياسية المغربية.
وإجابة عن السؤال: ما هي المكانة التي تمنحها الطبقة السياسية، بمختلف اتجاهاتها وتياراتها الأيديولوجية، للدستور المغربي؟ نورد الملاحظات التالية:
أولا: إن مقتضيات قانون الأحزاب أكثر إدراكا عند الطبقة السياسية من مقتضيات الدستور نفسه، وقد تتبع المغاربة مرارا فضائح الخلط بين الإثنين تحت قبة البرلمان، بمجلسيه معا!...
ثانيا: جهل فئة من «نواب الشعب» لـ «دستور الشعب»، لا يقتصر، فحسب، على البنية المؤسسة للدستور، بل يتعدى ذلك إلى أبسط فصوله، وإن كان الفصل 19 هو «الأكثر شعبية» لدى البرلمانيين!...
ثالثا: هناك صنف من المنتخبين يجهلون الدستور جهلهم للميثاق الجماعي. ونتيجة لذلك، تتحول المجالس المنتخبة إلى «مجالس أعيان» تدفعها «الأمية السياسية» إلى اتخاذ قرارات عمومية مختومة بخاتم «الجهل الدستوري»!...
وإذا كانت مصداقية المؤسسات رهينة بوجود دستور ديمقراطي، فإن التطبيق الفعلي والناجع للدستور رهين، هو الآخر، بمقدار وعي الشعب به، وتفاعله مع مضامينه ومقتضياته الكلية. إذ لا يمكن حكم أمة بدستور تجهله الأمة!

» نص الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة